ارتعشت أناملها الرشيقة والمرتبة وسبقتها إلى مفاتيح الحروف في الهاتف المحمول، كتبت له بخفة متمرسة على كتابة الرسائل القصيرة: «نلتقي بعد نهاية الدوام في المقهى المطل على البحر».
كانت متلهفة للقائه، مندفعة، منجذبة بتيار متناقض من المشاعر، لا تدري ما الذي أثارها في هذا الزميل المتكتِّم، هل أناقته الكلاسيكية، أم مركزه المهني، أم شهاداته العليا أم جديته؟..لم تنشغل كثيرا بتلك الأسئلة، استسلمت لغموض اللحظة، عدَّلت من كحل عينيها، بالغت في العطر، أسدلت شعرها الكستنائي على كتفيها، وذهبت للقائه ..
في الركن الهادىء في المقهى، كان يبدو مرتبكا وهو يجول بنظره بين صفاء عينيها وزرقة البحر، وكانت تبدو قلقة وهي تستعجل بوحَه العاطفي، كانت تتخيل بأنه سيلقاها بقبلة على ظهر كفها وبباقة ورد أحمر وبقصيدة غزل، كانت تتوقع سماع اعتراف ملتهب بأن قلبه اختارها من بين كل نساء الدنيا، وكانت تتصور أنه سيطلب يدها ببيان رومانسي، لكنه بدا لا مباليا بهذه التفاصيل الصغيرة، فضّل الدخول في الموضوع مباشرة وبدون مقدمات عاطفية، وكأنه يتلو بنود عقد استئجار شقة مفروشة.
وهو يحرك خاتما فضيا في أصبعه الثاني، بدأ حديثه بمدح الزواج كمؤسسة اجتماعية تحفظ النسل البشري وتحمي الشباب من الرذيلة، ثم انتقل سريعا إلى مدح نفسه ووضعه الاجتماعي والعائلي، وأطنب في سرد تفاصيل بحثه المضني عن شريكة لحياته تستوفي شروطه المسبقة، مؤكدا لها أنه بعد تحرياته الدقيقة في ملفات فتيات عديدات في محيطه الأسري والمهني، كانت هي السعيدة الحظ التي تجيب عن أغلب معاييره الشكلية والأخلاقية والمادية والاجتماعية، لهذا قرر طلب يدها للزواج.
لم يحاول سؤالها عن رأيها في الطلب، أخذ رشفة من فنجان قهوته، وواصل سرد باقي شروط الارتباط وكأنه يكلم نفسه، أكد لها على أنه رجل حداثي ويؤمن بحق المرأة في الخروج إلى العمل وفي شراكتها المالية في تدبير شؤون الحياة، واقترح عليها تمتين رباطهما الروحي بشراكة مادية، وبفتح حساب مشترك يتكلف هو بتدبير حساباته الدقيقة.
حركت شفتيها لتتدخل، لكنه قاطعها متابعا كلامه المرتب: «ما كنت لأفكر في الزواج الآن لو لم تتعب أمي، فتدهور حالتها الصحية أربك حياتي، كانت هي من يشرف بحرص شديد على حاجياتي وتفاصيل البيت والطعام والنظافة واللباس، أنا رجل يحب الأناقة والنظام والأكل الصحي، أكره رغيف المخبزات ومعدتي لا تتحمل وجبات المطاعم السريعة، أحتاج إلى لمسة امرأة لترتيب فوضاي، فاخترتك أنت من بين كل النساء بعد أن سألت عن مؤهلاتك ومواهبك في الطبخ وإعداد الحلويات والتدبير المنزلي..».
كان لا يزال يواصل استعراض أركان الزواج الذكورية، لما دفعت كرسيها للخلف وحملت حقيبتها وغادرت المقهى منكسرة..
كانت تعرف أن الزواج شراكة غير متكافئة في الحقوق والواجبات بين رجل وامرأة، وكانت ستقوم طوعيا وبمبالغة بأدوارها التقليدية، وكانت ستساهم إراديا وبكرم زائد في مصروف البيت.. لكنها كانت في حاجة إلى كذبة عاطفية بيضاء، ولبعض الشاعرية، ولطقس رومانسي في التعبير عن الرغبة في الارتباط يحفظ كبرياءها..
للأسف، كان صادقا جدا وواقعيا، في طلب يدها للزواج، لدرجة القسوة.