بينما كان ميلاده الرسمي في أواخر القرن التاسع عشر بأوروبا مع حادثة دريفوس المشهورة، التي كانت وراء البيان الذي أصدرته مجموعة من كتاب فرنسا تحت اسم "بيان المثقفين". والسؤال الآن هو: هل كان فراغ من مفهوم "المثقفين"، على صعيد المضمون، بين تلك الحقبة الطويلة التي تفصل بين العصر الأموي في الحضارة العربية وعصر ما بعد "التنوير" في الحضارة الأوروبية، عصر ما بعد الثورة الفرنسية؟
الجواب على هذا السؤال يقدمه لنا أحد المؤرخين الفرنسيين الكبار، الذي انكب على تتبع تأثير الفكر العربي في القرون الوسطى على الفكر الأوروبي في عصر نهضته. لقد كشف جاك لوكوف في كتاب قيم جعل عنوانه: "المثقفون في العصور الوسطى"، كيف أن شريحة "المثقفين" ظهرت في أوروبا قبل حادثة دريفوس بقرون وأن أصولها ومرجعياتها ترجع إلى "المثقفين" (المتكلمين والفلاسفة) في الإسلام، وأن هذه الشريحة برزت مباشرة مع البدء في ترجمة الموروث الثقافي العربي إلى اللغات الأوروبية في القرن الثاني عشر الميلادي، زمن ابن رشد. يقول: كان "المثقفون" الذين ظهروا في أوروبا القرن الثاني عشر واعين بأنهم ينتمون إلى جيل ثقافي جديد، وكان معاصروهم يسمونهم بـ"المحدثين". غير أنهم مع وعيهم الحداثي لم يكونوا يتنكرون لفضل القدماء، بل بالعكس كانوا يعلنون أنهم يقتدون بهم، يستفيدون منهم ويقفون على أكتافهم. يقول أحد هؤلاء المثقفين: "لا يمكن الانتقال من ظلمات الجهل إلى نور العلم إلا بقراءة وإعادة قراءة كتب القدماء بشغف حي ومتزايد. فلتنبح الكلاب، ولتغمغم الخنازير، فإن ولائي للقدماء سيبقى قائماً، وسأظل منصرفاً إليهم بكل اهتمامي، وسيجدني الفجر كل يوم منهمكاً في قراءة مؤلفاتهم"! و"القدماء" المعنيون هنا هم العرب ومن خلالهم اليونان. أما المعلم برنار دي شارتر (نسبة إلى أحد أهم المراكز العلمية بفرنسا يومئذ) فقد ترك عبارة بليغة سارت بها الركبان في عصره والعصور اللاحقة، عبارة يقول فيها: "نحن أقزام محمولون على أكتاف عماليق، وإذا كنا نشاهد أكثر مما شاهدوا ونرى أبعد مما رأوا، فليس ذلك لأن بصرنا أحد أو لأن أجسامنا أطول، بل لأنهم يحملوننا على أكتافهم في الهواء ويرفعوننا بكل طول قاماتهم الهائل".
كان هؤلاء ينتمون من قريب أو بعيد لذلك التيار الفكري الفلسفي الحداثي، الذي عرف باسم "الرشدية اللاتينية"، أولئك الذين كانوا يغرفون مما ترجم إلى اللاتينية من كتب ابن رشد، وبكيفية خاصة شروحه على أرسطو. أما كتبه الأخرى التي تحركت في فضاء الثقافة العربية الإسلامية، مثل "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال" وكتابه "تهافت التهافت" فالغالب أنها لم تصلهم، ولذلك غاب في كتاباتهم ما كتبه ابن رشد في مجال ما نعبر عنه اليوم بـ"أخلاقيات الحوار"، التي نوجزها في ما يلي
لم يضع فيلسوف قرطبة "قواعد للحوار" بهذا العنوان في أي من مؤلفاته، ولكنه نبه إليها وطبقها في جميع كتبه، خاصة منها كتابه "تهافت التهافت" الذي هو كتاب حوار بامتياز. ففي هذا الكتاب الذي يرد فيه على الغزالي الذي هاجم الفلاسفة في كتاب له بعنوان "تهافت الفلاسفة"، فكفرهم في مسائل وبدَّعهم في أخرى، ينبه ابن رشد إلى جملة من القواعد الأخلاقية التي يجب أن يلتزمها المتحاورون حتى يمكن أن يقوم بينهم الحد الأدنى من التواصل والتفاهم. وما أجدر الناس في هذا الزمن الذي يرفعون فيه شعار الحوار، صباح مساء، أن يتقيدوا بها، لأنه من دونها يفقد مفهوم الحوار خصوصيته فيتحول إلى جدال صاخب أو إلى "حوار الصم"، لأنه يفقد ما به ويكون الحوار حواراً وهو الرغبة الصادقة في "الفهم والتفاهم".
من قواعد الحوار التي ألح عليها ابن رشد ما يلي
1. تجنب التشويش على رأي الخصم وضرب آرائه بعضها ببعض! وكان الغزالي صرح في كتابه المذكور: أنا لا أريد بيان الخطأ والصواب في آراء الفلاسفة و"إنما غرضنا أن نشوش عليهم وقد حصل". ووصف ابن رشد معظم الأقاويل التي عاند بها الغزالي الفلاسفة والمعتزلة بكونها عبارة "عن شكوك تعرض عند ضرب أقاويلهم بعضها ببعض، وتشبيه المختلفات منها بعضها ببعض، وذلك معاندة غير تامة" كما يقول فيلسوف قرطبة، لأن "المعاندة التامة إنما هي التي تقتضي إبطال مذهبهم بحسب الأمر في نفسه لا بحسب قول القائل به"، أي بحسب التزامه بالموضوعية وصرامة الاستدلال، وليس بحسب أقوال صاحب ذلك المذهب. ويضيف ابن رشد قائلًا: "لا يليق هذا الغرض (التشويش) به (بالغزالي) وهي هفوة من هفوات العلماء. فإن العالم بما هو عالم إنما قصده طلب الحق، لا إيقاع الشكوك وتحيير العقول".
2. الاجتهاد في فهم آراء الخصم ضمن مرجعيتها والتزام العدل والنزاهة في الاستشهاد بها، يقول: "فينبغي لمن آثر طلب الحق، إن وجد قولاً شنيعاً (عند خصمه) ولم يجد له مقدمات محمودة تزيل عنه تلك الشناعة، ألا يعتقد أن ذلك القول باطل، (بل عليه) أن يطلبه من الطريق الذي زعم المدعي له أنه يوقَف منها عليه، ويستعمل في تعلم ذلك من طول الزمان والترتيب ما تقتضيه طبيعة ذلك الأمر المتعلم". وأيضاً: فإذا رأى المحاور شناعات في أقاويل خصومه، فـ"من العدل أن يقام بحجتهم في ذلك ويناب عنهم، إذ لهم (إذا كان من حقهم) أن يحتجوا بها. ومن العدل كما يقول الحكيم (أرسطو) أن يأتي الرجل من الحجج لخصومه (لفائدتهم) بمثل ما يأتي به لنفسه، أعني أن يُجهد نفسَه في طلب الحجج لخصومه كما يُجهد نفسه في طلب الحجج لمذهبه، وأن يقبَلَ لهم من الحجج النوع الذي يقبله لنفسه". وأيضاً: "لابد أن يسمع الإنسان أقاويل المختلفين في كل شيء يفحص عنه، إن كان يحب أن يكون من أهل الحق". "وأما قول الغزالي إن قصده ها هنا ليس هو معرفة الحق، وإنما قصده إبطال أقاويلهم (الفلاسفة والمعتزلة) وإظهار دعاويهم الباطلة، فقصد لا يليق به، بل بالذين هم في غاية الشر".
عدلت 1 مرة. آخر تعديل لها في 19/03/09 13:57 من طرف boutrioult1.
3. الاعتراف بالآخر وعدم التنكر لما يستفيده الإنسان من خصومه. وفي هذا الصدد يشير ابن رشد إلى أن "معظم ما استفاد الغزالي من النباهة، وفاق الناس في ما وضع من الكتب إنما استفاده من كتب الفلاسفة ومن تعليمهم". "فلو لم يكن لهم إلا صناعة المنطق -التي يدعو إليها بحرارة- لكان واجباً عليه وعلى جميع من عرف مقدار هذه الصناعة شكرهم عليها".
4. التزام الأمانة العلمية: ومع تكرار التشويش المتعمد من طرف الغزالي لا يملك ابن رشد إلا أن يشك في اتصافه بـ"العدالة الشرعية"، وهي ما نسميه اليوم بالأمانة العلمية، يقول: "ولذلك نرى أن ما فعل أبو حامد، من نقل مذاهب الفلاسفة في هذا الكتاب وفي سائر كتبه وإبرازها لمن لم ينظر في كتب القوم على الشروط التي وضعوها، أنه مغير لطبيعة ما كان من الحق في أقاويلهم، أو صارف أكثر الناس عن جميع أقاويلهم. فالذي صنع من هذا: الشر عليه أغلب من الخير في حق الحق".