طنجة عروس الشمال التي ألهمت الفنانين على مختلف اتجاهاتهم كانت تجربة غيرت مسار هنري ماتيس الفني
ألهمت على مر العصور طنجة العالية المؤرخين النسابة و الشعراء المغنيين والرسامين من كل حدب وصوب، كل حسب مجاله وميوله حاول توصيف جمالها و نقل ما رآه الى العالم بعينه، فكان الحديث عن طبيعتها وتاريخها واصالتها ونقاء روح ساكنتها وجمال نساءها وحشمتهن دائما حاضرا، وقد كان الرسامون على رأس هؤلاء جميعا لاسيما بالفترة المعاصرة نظرا لظهور ملكة الرسم، كجسر عبور خيال لا يحكي الواقع باللغة، ومن جهة أخرى ما شهدته طنجة الدولية من تكامل بهاءها بفضل تعاقب الحضارات والشعوب سواء من خلال التثاقف أو الغزو، كل هذا كان المتلقي يعيشه وهو يشاهد لوحات الفن التشكيلي ولكن بأرواح مختلفة، و أنماط عديدة، فتجعلك هذه الأخيرة تتخيل المكان والزمان المجسد حسب رؤية وثقافة الرسام، وهذا ما يحصل بعد إلقاء نظرة على أعمال هنري ماتيس (Henri Matisse ) ... ، فطنجة بمنازلها البيضاء الممزوجة بزرقة السماء، وأصالة أهلها ذات تاريخ ضارب في عمق الزمن ومنه فلم يخترها السياسيون مرتعا للاحتلال الدولي، والدبلوماسيون محلا للإقامة، والرسامون وجهة للالهام اعتباطيا.
تضاربت الروايات حول مؤسس مدينة طنجة، هل هم سكان محليون أم بحارة فينيقيون شأنها في ذلك شأن العديد من المدن الواقعة بالثغور الشمالية، ويقال بأن تسميتها حسب الأسطورة تعود إلى طنجيس زوجة آنتايوس، وعند الاحتلال الروماني الرسمي على القرن الواحد للميلاد صارت المدينة قاعدة ولاية موريطانية الطنجية التي حملت إسمها نظرا لاهميتها جيواستراتيجيا، وبعد أفول نجم الرومان، استوطنها البزنطيون على القرن السادس، ليؤول حكمها الى إحدى قبائل الريف وهي غمارة التي تعود في الأصل إلى مصمودة، وقد ذكرت طنجة خلال العصر الوسيط لدى إبن الحوقل، والحسن الوزان وغيرهما...، نظرا لأهميتها التي لم يغيرها الزمن، ونظرا لتعاقب العديد من الأسر على حكمها من أدارسة ومرابطين و موحدين ثم مرينيين، وقبلهم العزفيين، ناهيك عن كونها كانت مسرحا لمجموعة من الصراعات السياسية، فقد تنازعت حولها العديد من الجهات خلال فترات الفراغ السياسي قبل قيام الدولة العلوية الشريفة، ولعل أبرزها تواجد الخضر غيلان…، عرفت المدينة أوج ازدهارها على مستوى المعمار، فقد أولاها السلاطين العلويون اهتماما بالغا لاسيما المولى إسماعيل، هذا المعمار الغالب عليه كان الطابع الإسلامي الصوفي، وعند بروز المدينة كتجمع حضري متكامل كان من الأساسي ملاحظة مقوماتها التي رافقتها الى غاية الفترة المعاصرة، هذه الأخيرة تتجلى في قبب الزوايا، الأسوار و الحمامات والأسواق، كل هذا وذاك لم تسلم قداسته من الإحتلال تحت مسمى الحماية، فكان لطنجة نصيب الأسد من ويلاتها، إذ أنها منذ عام 1830صارت دولية، بحكم أنها منفذ على بلدان البحر الأبيض المتوسط، قد خصصت بها العديد من القنصليات، وبدأت بها سياسة الحماية الدبلوماسية، التي تتم عن طريق النجنيس والمخالطة، وبعدها تم الاستعمار الفعلي عام 1844 بعد معركة ايسلي، وبعد توقيع المعاهدة التجارية مع بريطانيا، ثم قصفها من طرف البوارج الفرنسية شهر غشت من نفس السنة إثر مساعدة مولاي عبد الرحمن بن هشام للأمير عبد القادر الجزائري في مقاومته، وبعد قرابة قرن من الزمن وقعت المملكة المغربية الشريفة الحماية الشاملة فعليا وذلك سنة 1912 وهو التاريخ الذي يهمنا نظرا لارتباطه بالموضوع الأساس وهو طنجة عبر ريشة هنري ماتيس.
اللقاء الأول
يصعب ذكر تاريخ طنجة المعاصر فنيا وهي تعج الأجانب من مختلف الجنسيات دون ذكر بيرديكاريس و ولتر هاريس وهنري ماتيس، فالأول كان قنصلا أمريكيا والثاني صحفيا، كليهما شيدا قصرين بديعين ظلا على مر الزمن تجسيدا لصلة الوصل بين الشرق والغرب، وصل لا يخوله مكان في العالم باستثناء طنجة، في حين أن هنري ماتيس الفنان التشكيلي لم يخلد عشقه لطنجه بنفس الطريقة، أي من خلال المعمار وإنما من خلال سحر ألوان لوحاته، وقد نجح خلال تلات سنوات في خلق استمرارية لجمالية ما رآه الى الأبد، جمالية اختزلتها ذاكرته انطلاقا من نافذة غرفته بالفندق الكبير، فماتيس سحرته ألوان المدينة، معمارها المختلف كل الاختلاف عن مجتمعه والذي ذكره شكل قبب الزوايا نوعا ما بكنائس موسكو الأرثوذكسية، هاله التعايش بين المسلمين والنصارى واليهود، جذبته موسيقاها و أوانيها ومنسوجاتها وجمال نساءها.
جاء ماتيس حاملا لفكر فني وحشي (Fauvisme) يرى في الأشياء طبيعة ميتة، مشحونا بعاطفة الاستعمار الأوروبي الذي يرى نفسه محور الكون وما سواه هامش، متشبعا برسالته المزعومة حول الحضارة المفروضة على الشعوب الهمجية، ساعيا إلى إيجاد ذاته بعد موجة حزن اعترته اثر وفاة والده، متأثرا بفن اوجين لاكروا وبيكاسو، فدقق في التفاصيل التي تصنع الفرق وانطلق من الخاص نحو ما هو عام، ليجد حضارة وجمالا يفوقان كل التوقعات، بدءا من تأثير الشمس على أوراق الأشجار وكيف تتغير ألوانها حسب كل توقيت من فصل الشتاء بمدينة طنجة، إلى عالم أوسع وهو يجول بالمقاهي الصغيرة برجالاتها ذوي البَرانِس و الشكارات وهم يلهون بلعبة الورق آخر النهار، و القصبة وتفاصيلها، وهو يراقب زهرة مبحرا في تفاصيل لباسها التقليدي، فنقل من خلال أعماله المشاعر كذلك، من خوف وغضب وجدية…، لتكون فنا خالصا تنصهر فيه جميع هذه العناصر، فنا مجردا من التفاصيل والصور الواضحة غير أنه مجسد لروحه التي جاءت ضمآنة وعادت متشبعة بعشق جديد للمكان بلغ السكر الى الثمالة، شأنه في ذلك شأن السالكين الذين يستدلون بالأشياء عليه وهم يقولون ما رأينا شيئا إلا ورأينا الله بعده والمجذوبين الذين يقولون للاستدلال به على الأشياء، ما رأينا شيئا إلا رأينا الله قبله.