القائمة

أخبار

باب الشعبة.. بوابة أسوأ فيضانات آسفي منذ القرن السابع عشر

تعكس الفيضانات القاتلة التي ضربت مدينة آسفي هذا الأسبوع امتدادًا تاريخيًا طويلًا من الروايات التي توثق اجتياح السيول، مرارًا وتكرارًا، للمدينة العتيقة عبر باب الشعبة، مخلفة دمارًا واسعًا في المنازل والمتاجر وخسائر جسيمة في الأرواح. وتكشف الشهادات التاريخية الممتدة من القرن السابع عشر إلى مطلع القرن العشرين عن مشاهد خراب تكاد تتطابق في تفاصيلها، ما يؤكد أن هذا الموقع الهش ظل، عبر الزمن، بؤرة لأعنف الكوارث التي عرفتها المدينة.

نشر مدة القراءة: 4'
باب الشعبة.. بوابة أسوأ فيضانات آسفي منذ القرن السابع عشر
DR

تعرضت مدينة آسفي، خلال نهاية الأسبوع، لعواصف جوية عنيفة تسببت في فيضانات مفاجئة اجتاحت المدينة العتيقة والأحياء المجاورة، مخلفة حصيلة ثقيلة تمثلت في مصرع 37 شخصًا وإصابة العشرات. كما خلّفت هذه الكارثة خسائر مادية جسيمة، بعدما جرفت السيول السيارات، وغمرت المنازل، وأتلفت السلع داخل المتاجر وخارجها.

المشاهد الصادمة التي يتم تداولها اليوم على نطاق واسع عبر وسائل الإعلام والمنصات الرقمية، تعيد إلى الأذهان وقائع تاريخية موثقة وصفها علماء ومؤرخون في مخطوطاتهم منذ قرون. فقد سجلت المصادر المغربية تعرض آسفي لفيضانات متكررة منذ القرن السابع عشر، كانت في كل مرة تقريبا تضرب النقطة نفسها: باب الشعبة، إحدى البوابات التاريخية للمدينة العتيقة، والقريبة من وادي الشعبة الممتد بمحاذاة الأسوار.

ويشير المؤرخ والفقيه محمد بن أحمد العبدي الكانوني، في كتابه «آسفي و ما إليه قديما و حديثا»، إلى أن «المدينة القديمة تقع مباشرة على طول الوادي المؤدي إلى المحيط، ما جعلها عرضة للسيول العنيفة التي كثيرًا ما ألحقت أضرارًا جسيمة بالأرواح والممتلكات».

وعلى امتداد القرون، ومع تكرار الكوارث، ظل باب الشعبة نقطة عبور السيول نحو المدينة، ليشكل أحد أبرز الشواهد التاريخية على الكوارث البيئية التي عرفها الساحل الأطلسي للمغرب.

تاريخ من الفيضانات

في سنة 1647، يروي الكانوني أن فيضانًا مفاجئًا ضرب المدينة بعد صلاة العشاء، حيث «اجتاحت المياه منازل سكان آسفي والمناطق المحيطة بها»، و«دخل الفيضان الكبير عبر باب الشعبة، فدبّ الهلع بين الناس وتعالت الصرخات والعويل».

ويضيف أن المياه ارتفعت فوق المنازل «كأمواج البحر»، مدمرة الجدار المواجه للمحيط، ثم توالت الخسائر، إذ «خربت محلات الحبال، ثم العطارين، فالدباغين وصناع الأحذية، والمطاحن، والمنازل القريبة من السوق، وكل ما صادفها في طريقها». كما حفر السيل «خندقًا عميقًا من باب الشعبة إلى البحر»، ظل أثره ظاهرًا إلى غاية سنة 1650.

وفي سنة 1790، شهدت آسفي فيضانًا مدمرًا آخر، حين ضربت عاصفة عنيفة المدينة ليلًا، و«دخل السيل بينما كان الناس نيامًا»، فحطم باب الشعبة من جديد، ودمر المتاجر، وخلع أبوابها، وأفسد البضائع داخلها. ووفق الكانوني، فقد لقي أكثر من 200 شخص، «نساءً ورجالًا»، حتفهم داخل منازلهم وفي فندق القاعة. وبعد أيام قليلة، تلت ذلك موجة ثانية من السيول زادت من حجم الدمار، وخلفت خسائر فادحة في الماشية والممتلكات.

وفي سنة 1803، تسببت الأمطار الغزيرة مرة أخرى في تدفق السيول عبر باب الشعبة، حيث «دمرت الأبواب، وألحقت أضرارًا بما تحتويه من أموال وبضائع وأثاث». كما حفرت السواقي خندقًا جديدًا، ودخلت المسجد الكبير من درب القوس، ووصلت إلى باب المدرسة، و«جرفت اللوح الرخامي الموجود هناك نحو البحر».

وتكرر المشهد في يناير 1826، حين شهدت المدينة فيضانًا كبيرًا «دمر المتاجر، وجرف الأبواب المتبقية، وأفسد البضائع بداخلها»، وبلغت المياه المسجد الكبير، والزواية الناصرية، وحمام بوجرتيلة، إضافة إلى الأحياء المجاورة.

وفي يناير 1855، أدت أمطار غزيرة إلى فيضان مدمر آخر، حيث «خُربت متاجر الخزافين، والدباغين، وصناع الأحذية والحبال»، وتلفت البضائع والحبوب المخزنة بها. وتكدست المياه عند باب البحر، «واضطر الناس إلى عبورها بالقوارب»، فيما وصف كنوني الخسائر المالية بأنها «هائلة».

باب الشعبة… خسائر متكررة

وفي سنة 1902، شهدت آسفي واحدة من أعنف الفيضانات المسجلة في تاريخها. فقد تجمعت كميات هائلة من المياه خلف السور البرتغالي خارج باب الشعبة، إلى أن «انهار الجدار»، فانطلقت السيول نحو المدينة العتيقة، وبلغت ضريح سيدي عبد الرحمن، وأغرقت المنازل والمتاجر والأزقة، كما غمرت المسجد الكبير، والمدرسة، والزواية الناصرية، وضريح للا أم علي بدرب القوس.

آنذاك «قضى نحو مئتي شخص من أهل المدينة وآخرون نحبهم». وطالب الناجون بتعويضات «كلٌّ حسب خسارته، يشهد بما فقده».

وفي سنة 1927، تسببت الأمطار المتواصلة في فيضان جديد عبر باب الشعبة، دمرت خلاله واجهات المحلات، وغمرت المنازل، وأغرقت المسجد الكبير، والمدرسة، والزواية الناصرية مرة أخرى. وكتب الكانوني أن عددًا من الأشخاص لقوا حتفهم، مضيفًا: «كان الحدث هائلًا والمشهد رهيبًا». وعلى إثر ذلك، تم لاحقًا توسيع وادي الشعبة في محاولة للحد من مخاطر تكرار مثل هذه الكوارث.

تاريخ آسفي الطويل مع الفيضانات يكشف نمطًا متكررًا وواضحًا: سيول تخترق المدينة العتيقة عبر باب الشعبة، وهو المشهد ذاته الذي تكرر خلال الفيضانات الأخيرة، مؤكّدًا أن الجغرافيا والتاريخ ما زالا يفرضان حضورهما بقوة على واقع المدينة.

كن أول من يضيف تعليق على هذا المقال