كلمتان بسيطتان غير ثقيلتين على اللسان: "رصيف" و"قيامة" تُبلبل ذهن القارئ وتستدرجه للتوغل في القرآن والسنة، متأبطا مصيره بين يديه وهو يرتعش نشوة بقافية مُفعَمة بخوف ساكن في قرارة أنفسنا، جراء تربية في ثقافة تباع فيها الكتب التي تحكي عن "أهوال القبر" أكثر من دواوين الشعر، ليحل الألغاز الموقوتة في هذه القصيدة. هاتان الكلمتان هما البوابة الرئيسية، ذات آلاف الأقفال، لدخول عالم سحري فاتن ومفتون تختلط فيه السريالة والوجودية والواقعية كـ "كوكتيل"، كلما طال تخمُّره في الذاكرة، كلما باح بالبعض من أسراره ولوحاته الفنية وعمقه الفكري الوجودي وواقعيته العارية والمتحررة من كل الأصباغ والحلي، الموغلة في معاش الناس والمرافقة لهم على الدوام. كلمة "رصيف" ليست استعارية ولا مجازية في القصيدة، بل مختارة بطريقة متناهية في الدقة. إنه إذن كَتِف ضمن الجدار لسند عمود أو جائز أو قوس. وهو في لغة هندسة الموانئ قاعدة استناد العمود على الأساس. في حين تشير كلمة "قيامة" ليس فقط إلى القِوامة، قيام على الأمر أو المال أو ولاية الأمر، بل إلى "الثورة ضد أو من أجل" ويقال قامت قيامة الرجل، بمعنى كَانَ فِي حَالَةِ غَضَبٍ شَدِيدٍ. وبهذا يكون ياسين عدنان قد قام بذلك خير قِيام في اختياره لعنوان قصيدته و ديوانه. جاء ابن سيرين عاريا في هذه القصيدة من تفاسيره وكأن لسان حاله يقول: "من رأى كأن القيامة قد قامت فى مكان فإنه يبسط العدل فى ذلك المكان لأهله فينتقم من الظالمين هناك وينصر المظلومين...".
قلنا إذن بأن السريالية، أي الفوق الواقعية، هي التي تقود حروف هذه القصيدة منذ البداية وهي تعبير عن عقل باطن بصورة يعوزها النظام والمنطق، آلية وتلقائية نفسية خالصة، من خلالها يمكن التعبير عن واقع اشتغال الفكر. يتعلق الأمر بقواعد إملائية للفكر مركبة، بعيدة كل البعد عن أي تحكم خارجي أو مراقبة تمارس من طرف العقل وخارجة عن نطاق أي انشغال جمالي أو أخلاقي:
"وأضاف جنين من بطن أمه: هذه مصائرُنا تُشوى"
و في مكان آخر:
"لكن الأم دفنتْ وجهَهُ في صدرها
فغاص الصبي بالداخل
حتى لم يبق منه شيئ
بلى
كانت رجلاه تتدليان من بين نهديها ..."
تستخدم الكلمات كرموز للتعبير عن متمنيات وأفكار والارتقاء بالتعابير اللغوية إلى ما فوق الواقع المرئي:
"فقالت الأم
بشرى لك يا بني
الأعضاءُ التي تحرِّضُ على المعاصي غادرَتْكَ
فطوبى لروحك يا قرة عيني
ستعود إلى السِّدرة البيضاءِ بيضاءْ ..."
هناك اهتمام قوي بالمضمون وليس بالشكل. لهذا تبدو بيوت القصيدة غامضة ومعقدة، وإن كانت منبعاً شعريا لاكتشافات مافوقـ- واقعية رمزية لا حصر لها، تحمل مضامين فكرية وانفعالية، تُرغم القارئ المتذوق على ترجمتها وفك رموزها، كي يدرك مغزاها حسب خبراته الشخصية. ويتجلي له ما خلف الواقع البصري. وفي هذا التجلي يتم الربط مجددا مع الواقع، ومن ثمة دخول الواقعية كحلقة أساسية في لعبة القافية عند ياسين عدنان. هناك إذن تقديم للوَاقِعِ وَنَقْلِهِ كَمَا هُوَ بطريقة عملية تعبر عن إدراك الأشياء كما هي في الواقع الإجتماعي و السياسي:
"لم نعد قادرين على الفرح ولا على التعب
من الوقوف
لأن أرجلنا تقلصَتْ بالتدريج"
إنه إذن، هذا الواقع الإجتماعي والسياسي العربي الذي أوصل أناسه إلى تمثل محيطهم هكذا، فبعد تقليم أصابع أيديهم ها هو يقلص أرجلهم بالتدريج، لكي يطول العذاب أكثر. وبهذا تكتمل القصيدة مضيفة الحلقة الثالثة في سلسلتها وتنفتح على بعد وجودي شاسع، منغمس حتى النخاع الشوكي في هموم الشعوب العربية:
" كنت أظن وأنا أعبر شارع الموتى
أن القيامة مجرد حكاية في كتاب
حتى جائت الساعةُ بغتةً
وانفلقت الجبال العظيمة عن فئران
صغيرة سوداء
ورياح شديدة الفتك"
ألم يكن الشارع العربي مليئا بالموتى قبل الحراك الأخير، والاستسلام للامعنى الوجودي المقرف وفقدان الأمل في "القيامة"، التي تعتبر بداية جديدة وتعبيرا عن الغضب الشديد للشعوب العربية التي كانت تهاب فئرانا صغيرة:
"لم تعد هناك في العربية
كلمة اسمها الخطى"
بل تجمد الإنسان العربي وتحجر واستسلم إلى الشعور باليأس وضاعت كل أحاسيسه النبيلة:
" قلوبنا هي الأخرى صارت مثل مجوفات
فضية صغيرة
فغرقت كلمة الحب في القاموس المحيط
وصرنا ننظر إلى بعضنا دون أن نشعر بأي شيئ [ ...]"
يبدأ فهم المعنى الوجودي للقصيدة بالدخول بالتجربة الوجودية الفردية الداخلية وبمعايشة الواقع وجدانيا أكثر منه عقليا ثم يبرز اكتشاف المعاني الأساسية في الوجود الإنساني: العدم أو الفناء أو الموت والخطيئة ،الوحدة واليأس والعبثية ثم القلق الوجودي ثم قيمة الحياة أو الوجود ثم معناه الصادق الملتزم باحترام القيم الإنسانية الخالصة وحقوقه وحرياته. ويُلمس هذا البعد في تكرار بعض الأفعال الحركية مثل "جاء"، الذي ذكر ثلاثون مرة و"مشى" و"سار" و"صعد"، إضافة إلى التركيز على الطريق، وليس على هدف محدد للسير:
" لم تكن الطريق ما يشغل بالهم [ ...]
كانوا مستغرقين في السير
دون أن يبالوا بمواطئ أقدامهم [ ...]
لكن لا شيئ يشغل بالهم
فقد كان رنين الخطى
كل زادهم في الطريق إلى فضة المعاصي [ ...]"
وعلى الرغم من أن الشاعر كان مبللا بهذا القرف من الحياة بوجوده بجانب المعري، فإن نفحة من الأمل تشرق في هذا التشائم المحموم بحرارة هذا القحط الوجودي:
"فظننت مثلا أن المعري الذي كان ينفخ بجواري
على النار لتصير بردا [ ...]".
لم يترك الشاعر نفسه تذوب في حمى اليأس، بل كان يحاول فهم ما حدث و يحدث في محيطه:
"لم أكن جذلانا و لا ناقما
كنت مشدوها فقط
حيث اختلطت في الجو روائح كثيرة"
كلمة "مشدوه" هي تعبير وجودي خالص عن حالة خاصة، تبدأ فيها الدهشة، التي تعتبر المفتاح الكبير للتفكير وهي التي تعبد الطريق للمشي والفعل في المحيط الذي يعيش فيه الإنسان، قصد تحريكه. اختار الشاعر إذن طريقا خاصا، حيث أن ملامح "الحراك" العربي لم تكن بعد مكتملة ولا واضحة، محاولا تخليص الروح من عفونة التراب، كصوفي هائم على وجهه، معترفا بمساهمة تجارب أدباء و شعراء و مفكرين، عرب وعجم، جاءوا متجولين على رصيف القيامة "ليتمتعوا" بما تيسر من لهيب و نار و يستمعوا لـ:
" [ ...] ملوك قصيرو القامة يتلون خطبا مطولة
بتفان و نكران ذات
لم يكن واضحا أنهم كانوا معنيين بما طرأ على الكون"
لأنهم لم يستمعوا لقول العرافين: "لكنها المحنة التي لا محنة بعدها"، بل طمأنهم وجود صحافيين:
"وجاء من أقصى المدينة صحفيون مستقلون
حتى عن ضمائرهم
و كتبوا ..."
يتمزق الجسد العربي على طول القصيدة، وهو تمزق ضروري لأنه لم يعد قادرا على التحمل، ليركز على روحه و يخلصها لكي لا تحرق بلهيب أبا لهب الظالم:
"فقالت الروح
لا أعرف لي أما و لا وطنا
كل ما أذكر أنني كنت محبوسة في طين عفن"
حققت الروح العربية إذن تلك الحرية الوجودية التي كانت تبحث عنها، بحرق الأخضر واليابس في واقعها الاجتماعي والسياسي، مستعدة للفعل في هذا الواقع، على الرغم من قوة دوي صاعقة "القيامة":
"كانت ألسنة اللهب تنهش الرمق الباقي
فيما الدوي الأخير يتغمّدُ
الألباب".
وقع هذا كله في زمن كينوني/وجودي بغتة وبدون سابق إنذار، لكن في موعده المحدد:
" جاءت المواعيد في وقتها بالضبط
وجاءت الساعة وجرس المنبه
والنواقيس عادت من حيث رنّت"
هناك إذن التحام بين الفضاء الكينوني والزمن في القصيدة، وهو الذي يسمح بانبثاق حدس بداية وجودية جديدة، وهي درجة الصفر في الزمن، وما الزمن إلا تلك الدرجة، كلما ابتعد عنها، كلما اقتربت منه، لتفرض عليه بطريقتها مُعايدة البداية إلى ما لا نهاية إلى أن تستقيم الطريق. ونجد نفس الشيء عند هيدجر عندما يقول:
"كم يكون البُعْدَ؟
عندما تتوقف الساعة
في دقة التأرجح بين الهنا والهناك
تسمع: أنها تذهب
ولم
تذهب و تذهب
في وقت متأخر من اليوم
الساعة
ليست إلا أثرا
للوقت
الذي تقوم
منه الأزلية تقريبا".
الـ"رصيف" هو إذن الفضاء الكينوني حيث يتحرر الجسد العربي من عفونة واقعه و"القيامة" هي لحظة البدأ المبدعة، حيث تبحث الروح العربية عن مأوى زمكاني. وهذان المكونان الوجوديان هما اللذان أسسا قصيدة ياسين عدنان، التي استشرفت المستقبل العربي قبل عشر سنوات خلت. إنه عراف الكينونة العربية، الذي لم يسأل النجوم ولا تلك العجوز المختبئة تحت مظلة لتحتمي من لسعات شمس جامع الفنا وقت الظهيرة، مقترحة على المارة قراءة أكفهم أو "ضريب الكارطة" لهم، بل توغل تفكيكي وتحليلي وتركيبي لواقع عربي، كان عليه التخلص من "الفئران" لمعانقة "القيامة" على رصيف الوجود. يلتقي ياسين عدنان في قصيدته هذه، و لربما في مجموع هذا الديوان، وجها لوجه مع إيريك فروم، و ندعو القارئ الكريم أن يتمعن النص التالي كخاتمة لهذه القراءة النقدية، لأنها تتضمن معاني نجدها بالكامل عند شاعرنا المغربي ياسين عدنان: "يسمح لنا مفهوم التحوّل الشخصي أو الاجتماعي بإعادة تعريف كلمة "بعث"، بل هو يجبرنا على ذلك، دون أي رجوع إلى مضامينها اللاهوتية المسيحية. فكلمة بعث في معناها الجديد، [ ... ] ليست خلقا لواقع آخر، مفارق لواقع هذه الحياة: ولكنها تحويل لهذه الحقيقة الواقعة في اتجاه ديناميكية أعظم. إن الإنسان والمجتمع يبعثان في كل لحظة في فعل الأمل والإيمان، هنا والآن؛ فكل فعل حب وتيقظ وحنو هو بعث؛ وكل فعل كسل وجشع وأنانية هو موت. إن الوجود يواجهنا في كل لحظة بالتخيير بين البعث والموت؛ ونحن نستجيب لذلك في كل لحظة. وهذه الإستجابة لا تكمن فيما نقوله أو نفكره؛ وإنما تتعلق بما نكون وبالطريقة التي نتصرف بها وبالهدف الذي يواصل السير إليه" (إيريك فروم،تشريح النزعة التدميرية البشرية".