فرنسا بين عمل مسلح قادم ووطنيين مراوغين
لكن استحضار قيام حرب تحريرية واعدة على مستوى شمال افريقيا لم يكن مستبعدا، وعلى الأقل داخل المغرب، لأن كرانفال في هذا الوضع المتأزم الذي أغرقه في الأوحال كان يقول: "إن الوقت في المغرب من دم". (ص 368). ويقول عن استعداد المغاربة للاحتجاجات: "إن الرأي العام المغربي قد بلغ في مجموعه الآن حدا من الاحتجاج، إلى درجة أصبح معها كالهشيم والقش اليابس، قابلا بسهولة للاشتعال، وفي أية لحظة. ولا ريب فيه أن الأعمال التي وقعت في المراكز الصغرى بالبوادي (لبلاد) خصوصا بوادي زم وخريبكة وخنيفرة، كان من الممكن أن تنفجر أيضا في كل الجهات الأخرى".
نلاحظ أن كرانفال لا يقيم وزنا إلا للحوادث المرعبة التي حلت ببعض المناطق اقترانا بذكرى نفي الملك. لكن ما خفف الوطء عليه، هو تعاطف الوطنيين معه، حين ابلغه ذلك بعضهم ممن زاروه في هذه اللحظات الحرجة (بنبركة، اليازيدي، وقبلهما بوطالب) فيقول عنهم: " ووقتها كنت اشعر بمخاطبي الاثنين، وقد تأثرا بما وقع بشكل عميق" (ص304). فيما يخص الانفجارات الاحتجاجية المحدودة بالمدن الكبرى فيفسرها كرنفال بقوله "... لوجود العدة العسكرية والأمنية المتمركزة بشكل كبير داخل الأوساط الحضرية، وكذا من خلال التأثير المعنوي الذي ظلت العناصر الوطنية تمارسه على مجموع المغاربة .... "، ثم يستدرك بإيراد شكوك حول الوطنيين " ومع ذلك لا يمكن استبعاد مساهمة هؤلاء الوطنيين خفية في تشجيع الاضطرابات التي وقعت بالبوادي (لبلاد) من دون أن يتوقعوا مدى الابعاد الخطيرة التي ستبلغها ".
ليضيف "ولعل هدفهم من وراء ذلك هو ان يثبتوا لنا بكون قضية السلطان الأسبق قد أصبحت اليوم مطروحة بجلاء داخل البوادي كما كانت مطروحة بالمدن، وبالجبال كما في السهول ولدى الأمازيغ كما هي لدى العربان .... " (ص317).
إذا جمعنا كل هذه المواقف التي أعلنها كرنفال، والتحذيرات، والتخوفات، وكأنه عدو للجميع أو في مرمى ضربات الجميع، فإنه سيخرج باستنتاج إزاء الدعوة لتجمع ايكس ليبان: " أصبح السؤال الذي يؤرقني هو كيف يمكن التفكير الان في اجتماع " ايكس ليبان " الذي وأن أصبح منذ مدة بدون طائل، ولا يمكن أن يحمل الينا انعقاده أي بصيص معها مهما صغر من الضوء، بل على العكس لا يزيد هذا الاجتماع، إن حدث، إلا في تفاقم الأمور " (ص319)
هذه الفكرة جالت في خاطر المقيم العام عند بداية تجمع ايكس ليبان، وكان مقتنعا بها اشد الاقتناع، وهو في هرم السلطة. وإذا اضفنا اليه غيره من الوزراء المقتنعين بنفس الفكرة أو الذين لم يكونوا ضدها، فكيف نتحدث عن استعراض أفكار مختلف الفرقاء المغاربة علما أن الجهة الوحيدة، في الحقيقة، التي كانت تنتظر الجهة الفرنسية رأيها في الموضوع، هم أعضاء حزبي الاستقلال والشورى والاستقلال. وهؤلاء التقوا بكرنفال أو بعضهم، قبل أحداث خريبكة وغيرها، وفي ابانها، واستأنس بآرائهم رغم توجسه إلى حد ما بإمكانية وجود نويا ليست بتلك التي تدفع إلى قيام مجازر كتلك التي شهدتها تلك المنطقة.
أن كرنفال يقدم الوصفة للخروج من المشهد المتأزم الذي تعيشه الحكومة الفرنسية إزاء الوضع في المغرب، وبصفة عامة على صعيد شمال افريقيا.
أنتسيرابي مفتاح ايكس ليبان
كان رئيس الحكومة الفرنسية ادكارفور لا يرى اية فائدة في استبعاد محمد الخامس، فحينما أزيح عن العرش في غشت 1953، كان ادكارفور وزيرا في الحكومة الفرنسية، وقد حرر خطابا من موقع مسؤوليته، وجهه الى رئيس فرنسا يقول فيه " ان خلع السلطان ونفيه وتنصيب شخص غير معروف في المغرب على العـــــرش، خطــــــأ فاحش ...." (بوعبيد).
والمقيم العام يشير إلى أن انتسيرابي لها ثقلها حين يقول انه " مما لا جدال فيه اننا اذا لم نقم بهذه المهمة إلى مدغشقر في الوقت المناسب، فقد نجد أنفسنا، في حالة عزمنا على ابرام المحادثات مع محمد بن يوسف، و قد غدونا مجردين من كل أساس للتحاور في المفاوضات (...) بحيث سيبدو ذلك السلطان الذي كانت حكومة غشت 1953 قد تخلت عنه فاتحة المجال لعزله عن العرش، و كأنه أضحى يحكم في الظرف الراهن في مصير السلطان الجالس عن العرش حاليا أي في شهر غشت 1955 (مذكرات كرانفال، صفحة 319).
ليس حضور محمد الخامس، في تأثيث ما يروج، هو العقبة لكن حتى الطرف الأقوى في تجمع ايكس ليبان من الجانب المغربي، والمتمثل في الحركة الوطنية، لا يقبل بأي تحرك دون استحضار دور الملك في الأجواء الدائرة.
اذن النتيجة التي يمكن الخروج بها، كون محادثات ايكس ليبان حضرت، ولو من بعيد، لإبعاد بنعرفة، والتركيز على دور محمد الخامس، وتقوية الجبهة الفرنسية التي تنادي باستعادة الشرعية بتصحيح خطأ 20 غشت 1953... يقول عبد الهادي بوطالب، الذي حضر عن حزب الشورى والاستقلال، ان الخلافات كانت تنحز قادة فرنسا مدنيين وعسكريين حول الوضع المغربي (عبد الهادي بوطالب: ذكريات... شهادات... ووجوه، صفحة 569). وان اللجنة الوزارية المكونة للنظر في موضوع الاحداث هي من دعت الى تجمع ايكس ليبان. وهذه اللجنة الخماسية بدورها كانت تنخرها الخلافات.
ودون شك، فالوضع المحموم في المغرب فرض على فرنسا أن تتستر وراء استدعائها كل الجهات التي تسهم في استتباب الخلافات، وذلك في مقابل ما كانت تعيشه فرنسا من تناطح الآراء والنزاعات إزاء الوضع في المغرب. ورغم هذا، نجد من يتحدث عن ايكس ليبان وكأنها كانت العصا السحرية لوضع المغرب على السكة في اتجاه المستقبل. هذا ويجب ألا ننسى في هذا الخضم التهديدات التي كان يخص بها الماريشال جوان رئيس الحكومة، مما يعني ان جماعة "الوجود الفرنسي" في المغرب كانت لها كلمتها بدون منازع.